فصل: من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الأعلى:
قوله جل ذكره: بسم الله الرحمن الرحيم.
(بسم الله) اسم عزيز من قصده وجده، ومن استسعفه حمده، من طلبه عرفه، ومن عرفه لاطفه، فإذا وجد لطفه ألفه، وإذا ألفه أنف أن يخالفه.
قوله جلّ ذكره: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى}.
أي سَبِّحْ ربَّك بمعرفة أسمائه، واسبح بسِرِّك في بحار علائه، واستخرِجْ من جواهر عُلوِّه وسنائه ما ترصِّعُ به عِقْدَ مَدْحِه وثنائه.
{الَّذي خلق فسوى}.
خلق كلَّ ذي روح فسوى أجزاءَه، ورَكَّبَ أعضاءَه على ما خَصّه به من النظم العجيب والتركيب البديع.
{وَالَّذِس قدر فهدى}.
أي قدر ما خَلَقَه، فجَعَلَه على مقدار ما أراده، وهدى كلَّ حيوانٍ إلى ما فيه رشده من المنافع، فيأخذ ما يُصْلِحه ويترك ما يضره- بحُكم الإلهام.
ويقال: هَدَى قلوبَ الغافلين إلى طلب الدنيا فعمروها، وهدى قلوبَ العابدين إلى طلب العقبى فآثروها، وهدى قلوبَ الزاهدين إلى فناء الدنيا فرفضوها، وهدى قلوبَ العلماءِ إلى النظر في آياته والاستدلال بمصنوعاته فعرفوا تلك الآيات ولازموها.
وهدى قلوبَ المريدين إلى عِزِّ وَصْفِه فآثروه، واستفرغوا جُهْدَهم فطلبوه، وهدى العارفين إلى قُدْس نعتِه فراقبوه ثم شاهدوه، وهدى الموحِّدين إلى علاء سلطانه في تحد كبريائه فتركوا ما سواه وهجروه، وخرجوا عن كلِّ مألوفٍ لهم ومعهود حتى قصدوه. فلما ارتقوا عن حدِّ البرهان ثم عن حدِّ البيان ثم عمَّا كالعيان عَلِموا أنَّه عزيزٌ، وأنَّه وراءَ كلِّ فَصْلٍ ووَصْلٍ، فرجعوا إلى مواطنِ العَجْزِ فتوسَّدوه.
{وَالّذِى أَخْرَجَ المرعى}.
أي النبات.
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أحوى}.
جعله هشيماً كالغثاء، وهو الذي يقذفه السيل. و{أحوى} أسود.
{سنقرئك فَلاَ تنسى}.
سنجمع القرآن في قلبك- يا محمد- حِفْظاً حتى لا تنسى لأنا نحفظه عليك.
{إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يخفى}.
مما لا يدخل تحت التكليف فتنساه قبل التبليغ ولم يجب عليه أداؤه.
وهو- سبحانه- يعلم السِّرَّ والعَلَن.
قوله جلّ ذكره: {فذكر إِن نَّفَعَتِ الذكرى}.
والذكرى تنفع لا محالة، ولكنْ لِمَنْ وَفَّقَه اللَّهُ للإتعاظِ بها، أمَّا مَنْ كان المعلومُ من حاله الكفرَ والإعراضَ فهو كما قيل:
وما انتافعُ أخي الدنيا بِمُقْلَتهِ ** إذا استوَتْ عنده الأنوارُ والظُّلَمُ

{سَيذكر مَن يخشى}.
الذي يخشى الله ويخشى عقوبته.
{وَيَتَجَنًَّبُهَا الأشقى الذي يَصْلَى النَّارَ الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى}.
أي يتجنَّبُ الذَّكْرَ الأشقى الذي يَصْلَى النارَ الكبرى، ثم لا يموت فيها موتاً يريحه، ولا يحيا حياةً تَلَذُّ له.
قوله جلّ ذكره: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى}.
مَنْ تَطَهَّرَ من الذنوبِ والعيوبِ، ومشاهدة الخلق وأدَّى الزكاة- وَجَدَ النجاة، والظَّفَرَ بالْبُغْيَة، والفَوزَ بالطِّلبة.
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى}.
ذَكَرَ اسمَ ربِّه في صلاته. ويقال: ذَكَره بالوحدانية وصَلَّى له.
{بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا}.
تميلون إليها؛ فتُقَدِّمون حظوظكم منها على حقوق الله تعالى.
{وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى}.
والآخرة للمؤمنين خيرٌ وأبقى- من الدنيا- لطُلاّبها.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ هَذَا لَفِى الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى}.
إن هذا الوعظَ لفي الصحف المتقدمة، وكذلك في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما؛ لأنَّ التوحيدَ، والوعدَ والوعيدَ... لا تختلف باختلاف الشرائع. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةُ الأعلى:
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى}؛
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعالية قالا: أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى» وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: السُّنَّةُ أَنْ تُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَيُسْتَدَلُّ بِقولهِ تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} على جَوَازِ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِسَائِرِ الْأَذْكَارِ؛ لِأَنَّهُ لما ذَكَرَ عَقِيبَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ الصَّلَاةَ مُتَّصِلًا بِهِ؛ إذْ كَانَتْ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا تَرَاخٍ دَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ.
آخِرُ سُورَةِ سَبِّحْ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الأعلى فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الأولى قوله تعالى: {سنقرئك فَلَا تنسى} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
قولهُ: {سنقرئك} أَيْ سَنَجْعَلُك قَارِئًا، فَلَا تنسى مَا نُقرئك.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ قال: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قولهِ: {سنقرئك فَلَا تنسى} قال: فَتَحْفَظُ.
قال عُلَمَاؤُنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَرْكِ النِّسْيَانِ؛ إذْ كَانَ لَيْسَ مِنْ اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ لَهُ تَرْكَهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَى مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
قال الْقَاضِي: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ النَّاسِي فِي حَالِ نِسْيَانِهِ أَنْ يَصْرِفَ نِسْيَانَهُ لَا يُعْقَلُ قولا، فَكَيْفَ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ فِعْلًا.
فإن قيل: فَقَدْ قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْ الدنيا}.
قُلْنَا: مَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ لُغَةً.
وَالتَّرْكُ على قِسْمَيْنِ: تَرْكٌ بِقَصْدٍ، وَتَرْكٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ.
وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَرْتَبِطُ بِالْقَصْدِ مِنْ التَّرْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثانية:
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقرأ فِي الْعِيدَيْنِ بـ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الأعلى} و{هَلْ أَتَاك حديث الغاشية} مِنْ طَرِيقِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.
خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ، وَغَيْرُهُ زَادَ النُّعْمَانُ: فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ.
وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لِلَّذي طَوَّلَ صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ: اقرأ بـ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الأعلى}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}» وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْآيَةُ الثانية قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
قال أَبُو الْعالية: نَزَلَتْ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ يُزَكِّي ثُمَّ يُصَلِّي.
المسألة الثانية:
فِي سَرْدِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: قال عِكْرِمَةُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقول أُقَدِّمُ زَكَاتِي بَيْنَ يَدِي صَلَاتِي.
فَقال سُفْيَانُ: قال اللَّهُ تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى}.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، قال: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاقِبُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ، وَقَدْ كَتَبْت إلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنْ يَخْرُجُوا فِي يوم كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَلْيَفْعَلْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تعالى يَقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْطُبُ النَّاسَ على الْمِنْبَرِ يَقول: قَدِّمُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِهَا وَيُخْرِجُهَا.
وَقول عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاقِبُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَعْنِي الزَّلَازِلَ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّكْرَ حَقِيقَتُهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّسْيَانِ الَّذي هُوَ ضِدُّهُ، وَالضِّدَّانِ إنَّمَا يَتَضَادَّانِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ؛ فَأَوْجَبَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ النِّيَّةَ فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ اقْتَضَاهَا عُمُومًا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.
وَقولهُ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
وَالصَّلَاةُ أُمُّ الْأَعْمَالِ، وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ فِي كُلِّ نِيَّةٍ بِفِعْلٍ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ؛ وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي تَقْدِيمِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِأَجْلِ تَعَذُّرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ فِيهِ بِأَوَّلِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْفَجْرِ، لِوُجُودِهِ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ على الْأَصْلِ وَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْقَاصِرِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ على الصَّلَاةِ جَائِزٌ بِنَاءً على مَا قال عُلَمَاؤُنَا مِنْ تَجْوِيزِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ على الْوُضُوءِ فِي الَّذي يَمْشِي إلَى النَّهْرِ فِي الْغُسْلِ؛ فَإِذَا وَصَلَ وَاغْتَسَلَ نَسِيَ أَنْ يُجْزِئَهُ قال: فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
وَهَذَا الْقَائِلُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا على وَجْهِهِ}؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَرَى فِيهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَالْوُضُوءَ فَرْعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ على الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَيُحْمَلُ الْأَصْلُ على الْفَرْعِ؟
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى}.
إذَا قُلْنَا: إنَّهُ الذِّكْرُ الثَّانِي بِاللِّسَانِ الْمُخْبِرُ عَنْ ذِكْرِ الْقَلْبِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ مُفْتَتَحٌ بِهِ فِي أَوَّلِهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قال: إنَّهُ كُلُّ ذِكْرٍ حَتَّى لَوْ قال: (سُبْحَانَ اللَّهِ) بَدَلَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ، بَلْ لَوْ قال بَدَلَ (اللَّهُ أَكْبَرُ): بِزْرك خداي لَأَجْزَأَهُ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقال أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُهُ (اللَّهُ الكبير) وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَاَللَّهُ الأكبر.
وَقال الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَاَللَّهُ الأكبر.
وَقال مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا قولهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. فَأَمَّا تَعَلُّقُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الذِّكْرِ بِالْعَجَمِيَّةِ بِقولهِ تعالى: {إنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى} فَيَأْتِي ذِكْرُ وَجْهِ التَّقَصِّي عَنْهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
وَأَمَّا قولهُ: إنَّهُ الذِّكْرُ مُطْلَقًا بِقولهِ الْعَامِّ: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} فَهَذَا الْعَامُّ قَدْ عينهُ قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلُهُ؛ أَمَّا قولهُ فَهُوَ فِي الْحديث الْمَشْهُورِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ».
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقول فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا: اللَّهُ أَكْبَرُ.
وَأَمَّا التَّعَلُّقُ لِلشَّافِعِيِّ بِقولهِ: إنَّ زِيَادَةَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ لَا تُغَيِّرُ بِنَاءَهُ وَلَا مَعْنَاهـ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّعَبُّدَ إذَا وَقَعَ بِقول أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَبَّرَ عَمَّا شُرِعَ فِيهِ بِمَا لَا يُغَيِّرُ؛ لِأَنَّهَا شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَاعْتِبَارٌ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَجَوَابٌ ثَانٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَدْخُلُ لِلْجِنْسِ وَلِلْعَهْدِ، وَكِلَاهُمَا مَمْنُوعٌ هَاهُنَا، أَمَّا الْجِنْسُ فَإِنَّ الْبَارِئَ تعالى لَا جِنْسَ لَهُ.
وَأَمَّا الْعَهْدُ فَلِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْكُبْرِيَّةِ عَنْ اللَّهِ تعالى وَصْفٌ، فَلَا مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ فِيهِ حَيْثُ لَا تُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ.
وَإِذَا بَطَلَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ أَبْطَل.
فإن قيل: قولهُ: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} عُمُومٌ فِي كُلِّ ذِكْرٍ، وَقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَكْبَرُ فِي الصَّلَاةِ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَيُحْمَلُ على الِاسْتِحْبَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْمَلُ على الْوُجُوبِ لَوْ كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ وَاحد.
وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَنُعَوِّلُ الْآنَ هُنَا على أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِكُلِّ ذِكْرٍ، فَتَعين التَّكْبِيرُ بِأَمْرِهِ بِاتِّبَاعِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {إنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
فِي مَعْنَاهُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهُ القرآن.
الثَّانِي أَنَّهُ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سبحانه فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يَعْنِي أَحْكَامَ القرآن.
المسألة الثانية:
تَحْقِيقُ قوله تعالى: {إنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى} يَعْنِي القرآن مُطْلَقًا قول ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا.
وَأَمَّا الْقول بِأَنَّهُ فِيهِ أَحْكَامُهُ فَإِنْ أَرَادَ مُعْظَمَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي قولهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذي أَوْحَيْنَا إلَيْك}.
وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِهِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ الأولى مِنْ الْأَقْوَالِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْهَا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ الْقراءة فِي الصَّلَاةِ بِالْعَجَمِيَّةِ بِقولهِ تعالى: {إنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى}.
قالوا: فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كتابهُ وَقرآنَهُ فِي صُحُفِ إبراهيم وموسى بِالْعِبْرَآنية؛ فَدَلَّ على جَوَازِ الْإِخْبَارِ بِهَا عَنْهُ وَبِأَمْثَالِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَلْسُنِ الَّتِي تُخَالِفُهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وجهين:
الأول: أَنَّا نَقول: إنَّ اللَّهَ سبحانه بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْكُتُبَ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، كَمَا أَخْبَرَ، وَمَا أَنْزَلَ مِنْ كتاب إلَّا بِلُغَتِهِمْ، فَقال سبحانه وَتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}؛ كُلُّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَتَقْرِيبٌ لِلتَّفْهِيمِ إلَيْهِمْ، وَكُلٌّ مُفْهِمٌ بِلُغَتِهِ، مُتَعَبِّدٌ بِشَرِيعَتِهِ، وَلِكُلِّ كتاب بِلُغَتِهِمْ اسْمٌ؛ فَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُوسَى التَّوْرَاةُ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ عِيسَى الْإِنْجِيلُ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُحَمَّدٍ القرآن، فَقِيلَ لَنَا: اقْرَءُوا القرآن، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا يُسَمَّى قرآنا.
الثَّانِي: هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي صُحُفِ مُوسَى بِالْعِبْرَآنية فَمَا الَّذي يَقْتَضِي أَنَّهُ تَجُوزُ قراءته بِالْفَارِسِيَّةِ؟.
فإن قيل: بِالْقِيَاسِ.
قُلْت: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَاسِيَّمَا عِنْدَكُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ على التَّمَامِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. اهـ.